الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون، قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} قوله تعالى{قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله} أي تصرفون عن دين الله {من آمن}. وقرأ الحسن {تُصِدون} بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صَدّ وأصَدّ؛ مثل صل اللحم وأصَلَّ إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير. {تبغونها عوجا} تطلبون لها، فحذف اللام؛ مثل والرجل الأعوج: السيء الخلق، وهو بيِّن العَوَج. والعُوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب. والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا. ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فَحَج، وهو مدح. ويقال: الحَنَب اعوجاج في الساقين. قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج. قوله تعالى{وأنتم شهداء} أي عقلاء. وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحَيَّين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شيء، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج؛ فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون؛ عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم؛ فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين؛ فأنزل الله عز وجل{يا أيها الذين آمنوا} يعني الأوس والخزرج.{ إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} يعني شاسا وأصحابه {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قال جابر بن عبدالله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا؛ فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
{وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} قاله تعالى على جهة التعجب، أي {وكيف تكفرون وأنت تتلى عليكم آيات الله} يعني القرآن. {وفيكم رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم؛ فنزلت هذه الآية {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} - إلى قوله تعالى: {فأنقذكم منها} ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده. وقال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله ونبي الله؛ فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة؛ فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. {وكيف} في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. قوله تعالى{ومن يعتصم بالله} أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. {فقد هدي} وفق وأرشد {إلى صراط مستقيم} ابن جريج {يعتصم بالله} يؤمن به. وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: أعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم؛ قال الفرزدق: قال النابغة: وقال آخر: وعصمه الطعام: منع الجوع منه؛ تقول العرب: عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع؛ فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا؛ وأنشد: ويسمونه عامرا. وأنشد: أبو مالك كنية الجوع.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} روى البخاري عن مرة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وقال ابن عباس: هو ألا يُعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} قوله تعالى{واعتصموا} العصمة المَنْعَة؛ ومنه يقال للبذرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب؛ يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل؛ ومنه الحديث: والحبالة: حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد؛ عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{ولا تفرقوا} يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم؛ عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من
انقسمت فأولهم الأزرقية - قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا؛ وكفّروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والأباضية - قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق. والثعلبية - قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدِّر. والخازمية - قالوا: لا ندري ما الإيمان، والخلق كلهم معذورون. والخَلَفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية - قالوا: ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية - قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية - قالوا: لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين. والأخنسية - قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية - قالوا: مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة - قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. الميمونية - قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا.
وانقسمت الأحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية. والكَيْسانية - وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أيثاب الناس بُعد أو يعاقبون. والشيطانية - قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية - قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية - قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزِّبْرية - قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية - زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته. والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه. والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شيء فهو كافر.
وانقسمت وانقسمت التاركية - قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية - قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاؤوا. والراجية - قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية - قالوا: الطاعة ليست من الإيمان. والبهيشية - قالوا: الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية - قالوا: الإيمان عمل. والمنقوصية - قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية - قالوا: الاستثناء من الإيمان. والمشبهة - قالوا: بصر كبصر ويد كيد. والحشوية - قالوا: حكم الأحاديث كلها واحد؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية - الذين نفوا القياس. والبِدعية - أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأمة.
وانقسمت العلوية - قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والأمرِية - قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة - قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية - قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية - قالوا: علي أفضل الأمة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والإمامية - قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية - قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية - قالوا: الأرواح تتناسخ؛ فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم. والمتربصة - تشبهوا بزي النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الأمر، يزعمون أنه مهدي هذه الأمة، فإذا مات نصبوا آخر.
ثم انقسمت فمنهم المضطرية - قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والأفعالية - قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية - قالوا: كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شيء. والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية - قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية - قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية - قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء فلا يعمل، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحِبية - قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية - قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية - قالوا: من ازداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة. والخشبية - قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنية - قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأمة في آخر سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها؛ أما سمعت الله عز وجل يقول { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام؛ فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوس والخزرج؛ والآية تعم. ومعنى {فأصبحتم بنعمته إخوانا} أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القرآن {أصبحتم} معناه صرتم؛ كقوله تعالى وأشفى على الشيء أشرف عليه؛ ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند امّحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج: قوله "بلا شفى" أي غابت الشمس. "أو بشفى" وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الأصل في شفا شَفَو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو؛ ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان.
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة. و{من} في قوله {منكم} للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك. قلت: القول الأول أصح؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية؛ وتلا الآية. وقال جابر بن عبدالله{الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} اليهود والنصارى. {جاءهم} مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.
{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} قوله تعالى{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى واختلفوا في التعيين؛ فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال: قوله تعالى{فأما الذين اسودت وجوههم} في الكلام حذف، أي فيقال لهم {أكفرتم بعد إيمانكم} يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب (أما) لأن المعنى في قولك:(أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق). وقوله تعالى{وأما الذين ابيضت وجوههم} هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.
{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين، ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور} قوله تعالى{تلك آيات الله} ابتداء وخبر، يعني القرآن. {نتلوها عليك} يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. {بالحق} أي بالصدق. وقال الزجاج{تلك آيات الله} المذكورة حجج الله ودلائله. وقيل{تلك} بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل {تلك} ويجوز أن تكون {آيات الله} بدلا من {تلك} ولا تكون نعتا؛ لأن المبهم لا ينعت بالمضاف. {وما الله يريد ظلما للعالمين} يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. {ولله ما في السماوات وما في الأرض} قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} "روى الترمذي وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة. {فخير أمة} حال. وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه: ومثله قوله تعالى بعثت فيهم. وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم؛ فقد"روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وذهب أبو عمر بن عبدالبر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه السلام: وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام: قوله تعالى{تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة. قوله تعالى{ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.
{لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} قوله تعالى}لن يضروكم إلا أذى} يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم؛ لا أنه تكون لهم الغلبة؛ عن الحسن وقتادة. فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا؛ فوقع الأذى موقع المصدر. فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة، لكن يؤذونكم بما يُسمِّعونكم. قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبدالله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم؛ فأنزل الله تعالى{لن يضروكم إلا أذى} يعني باللسان، وتم الكلام. ثم قال{وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} يعني منهزمين، وتم الكلام. {ثم لا ينصرون} مستأنف؛ فلذلك ثبتت فيه النون. وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام؛ لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره.
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين} قوله تعالى{ضربت عليهم الذلة} يعني اليهود. {أينما ثقفوا} أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم. {إلا بحبل من الله} استثناء منقطع ليس من الأول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله {وحبل من الناس} يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف؛ قاله الفراء. {وباؤوا بغضب من الله} أي رجعوا. وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة. ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وقد مضى في البقرة مستوفى. ثم أخبر فقال{ليسوا سواء} وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء؛ عن ابن مسعود. وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء. وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: وقيل: في الكلام حذف؛ والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى؛ كقول أبي ذؤيب: أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء{أمة} رفع بـ {سواء}، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع {أمة} بـ {سواء} فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه. وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. و{آناء الليل} ساعاته. وأحدها إنًى وأنًى وإنْيٌ، وهو منصوب على الظرف. و{يسجدون} يصلون؛ عن الفراء والزجاج؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله{وله يسجدون} أي يصلون. وفي الفرقان
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله تعالى{إن الذين كفروا} اسم إن، والخبر {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا}. قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله{إن الذين كفروا}. وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم. {وأولئك أصحاب النار} ابتداء وخبر، وكذا و{هم فيها خالدو ن}. وقد تقدم جميع هذا.
{مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} قوله تعالى{مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر} "ما" تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه. ومعنى {كمثل ريح} كمثل مهب ريح. قال ابن عباس: والصر: البرد الشديد. قيل: أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة. الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر. ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته ونفعه. قال الله تعالى{وما ظلمهم الله} بذلك {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى؛ لوضعهم الشيء في غير موضعه؛ حكاه المهدوي.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر: وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء."روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوله تعالى{من دونكم} أي من سواكم. قال الفراء{ويعملون عملا دون ذلك} أي سوى ذلك. وقيل{من دونكم} يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى {لا يألونكم خبالا} لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة لـ {بطانة من دونكم}. يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وأَلَوْت أُلُوًّا قصرت؛ قال امرؤ القيس: والخَبال: الخَبْل. والخبل: الفساد؛ وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول. وفي الحديث: أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء: أي فساد. وانتصب (خبالا) بالمفعول الثاني؛ لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال؛ كما قالوا: أوجعته ضربا{وما} في قوله{ودوا ما عنتم} مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في {البقرة} معناه. قوله تعالى{قد بدت البغضاء من أفواههم} يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح؛ يقال: شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا؛ فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء. وفي التنزيل وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز؛ وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك. وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر. قوله تعالى{وما تخفي صدورهم أكبر} إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. وقرأ عبدالله بن مسعود{قد بدأ البغضاء} بتذكير الفعل؛ لما كانت البغضاء بمعنى البغض.
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} قوله تعالى{ها أنتم أولاء تحبونهم} يعني المنافقين؛ دليله قوله تعالى{وإذا لقوكم قالوا آمنا} ؛ قاله أبو العالية ومقاتل. والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم. وقيل: المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر. وقيل: المراد اليهود؛ قاله الأكثر. والكتاب اسم جنس؛ قال ابن عباس: يعني بالكتب. واليهود يؤمنون بالبعض؛ كما قال تعالى وقال آخر: يقال: عض يُعض عضا وعضيضا. والعُضُّ (بضم العين): علف دواب أهل الأمصار مثل الكُسْب والنوى المرضوخ؛ يقال منه: أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض. وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه. والعض (بالكسر): الداهي من الرجال والبليغ المكر. وعض الأنامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره. وهذا العض هو بالأسنان كعض اليد على فائت قريب الفوات. وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم. ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة؛ كما قال: وواحد الأنامل أنملة (بضم الميم) ويقال بفتحها، والضم أشهر. وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية. قال ابن عطية: وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع إلى يوم القيامة. قوله تعالى{قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} إن قيل: كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء: كن فيكون. قيل عنه جوابان: أحدهما: قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم. أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا. فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة. الثاني: إن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك. فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة. ويجري هذا المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو: وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى
{إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} قوله تعالى{إن تمسسكم حسنة تسؤهم{ قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء. واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف. والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو مِلاك الدنيا والآخرة؛ ولقد أحسن القائل في قوله: {وإن تصبروا} أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين. {وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا؛ فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم. قلت: قرأ الحرميان وأبو عمرو {لا يضركم} من ضار يضير كما ذكرنا؛ ومنه قوله {لا ضير}، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين؛ لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف؛ لأن قبلها ما يدل عليها. وحكى الكسائي أنه سمع {ضارَه يضورُه} وأجاز {لا يَضُرْكم} وزعم أن في قراءة أبي بن كعب {لا يضْرُرْكم}. قرأ الكوفيون{لا يضركم} بضم الراء وتشديدها من ضر يضُر. ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء؛ والمعنى: فلا يضركم، ومنه قول الشاعر: هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم؛ وأنشد سيبويه: أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا. ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم. وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح {يضركم{ لالتقاء الساكنين لخفة الفتح؛ رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي. وحكى النحاس: وزعم المفضل الضبي عن عاصم {لا يضرِّكم} بكسر الراء لالتقاء الساكنين.
{وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم} قوله تعالى{وإذ غدوت من أهلك} العامل في "إذ" فعل مضمر تقديره: واذكر إذ غدوت، يعني خرجت بالصباح. {من أهلك} من منزلك من عند عائشة. {تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم} هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها. وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق. وعن الحسن أيضا يوم بدر. والجمهور على أنها غزوة أحد؛ يدل عليه قوله تعالى
{إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} العامل في {إذ - تبوئ} أو {سميع عليم}. والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد. ومعنى {أن تفشلا} أن تَجبُنا. وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل؛ لقول الله عز وجل{والله وليهما} . وقيل: هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس. والفشل عبارة عن الجبن؛ وكذلك هو في اللغة. والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبدالله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا؛ فذلك قوله تعالى{والله وليهما} يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم. وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة؛ ولم يكن ذلك الخَوَرُ مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل مغاضبا؛ إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، وسيأتي. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة. قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم. والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت؛ ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا. هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء. وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خالد بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس. وفيها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل: إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. قال الواقدي: والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أُحُدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، وتشبثت حلقتان من درع المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا؛ فكان اهْتم يزينه هَتَمُه رضي الله عنه. وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم. وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف. فكَمِن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين؛ فلما رجع من حملته ومر بوحشي زَرَقه بالمِزراق فأصابه فسقط ميتا رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت: ما كان عن عتبة لي من صبر ** ولا أخي وعمه بكري
شفيت نفسي وقضيت نذري ** شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي عليَّ عمري ** حتى تَرِمّ أعظمي في قبري فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبدالمطلب فقالت: صبحك الله غداة الفجر ** مِلْهاشميين الطوال الزهر
بكل قَطّاع حُسام يفري ** حمزة ليثي وعَليٌّ صقري
إذ رام شيب وأبوك غدري ** فَخَضَبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر وقال عبدالله بن رواحة يبكي [يرثي] حمزة رضي الله عنه: على أسد الإله غداة قالوا ** أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ** هناك، وقد أصيب به الرسول
أبا يَعْلى لك الأركان هُدَّت ** وأنت الماجد البر الوَصول
عليك سلام ربك في جنان ** مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا ** فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم ** بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا ** فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ** وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر ** غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا ** عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعا ** وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعبا ** وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها ** ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتا ** بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي ** فأنت الواله العَبْرى الهبول ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين. قوله تعالى{وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير. وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره. واختلف العلماء في
|